الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشريف الرضي: ومن السورة التي يذكر فيها النمل:.[سورة النمل: آية 7]: {إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)}.قوله تعالى: {إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نارًا (7)} وهذه استعارة على القلب.والمراد بها- واللّه أعلم- إنى رأيت نارا فآنستنى فنقل فعل الإيناس إلى نفسه على معنى:إنى وجدت النار مؤنسة لى، كما سبق من قولنا في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا} أي وجدناه غافلا، على بعض الأقوال.وقريب من ذلك قوله تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} ولم تغرّهم هى، وإنما اغتروا بها هم، فلما كانت سببا للغرور حسن أن ينسب إليها ويناط بها.وحقيقة الإيناس هي الإحساس بالشيء من جهة يؤنس بها، وما أنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه..[سورة النمل: آية 32]: {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)}.وقوله سبحانه حاكيا عن ملكة سبإ: {ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)} وهذه استعارة. والمراد بقطع الأمر- واللّه أعلم- الرجوع بعد إجالة الآراء، ومخض الأقوال إلى رأى واحد يصحّ العزم على فعله، والعمل عليه دون غيره، تشبيها بالإسداء والإلحام في الثوب النسيج، ثم القطع له بعد الفراغ منه. فكأنها أجالت الرأى عند ورود ما ورد عليها من دعاء سليمان عليه السلام لها إلى الإيمان به، والاتباع له، فميلت بين الامتناع والإجابة، والمخاشنة والملاينة. فلما قوى في نفسها أمر الملاطفة عزمت على فعله، فحسن أن يعبّر عن ذلك بقطع الأمر، لما أشرنا إليه.وعلى هذا قول الرجل لصاحبه: لا أقطع أمرا دونك. أي لا أقرر العزم على شيء حتى أفاوضك فيه وأوافقك عليه. وقد يجوز أن يكون ذلك كناية عن الاستعجال بفعل الأمر تشبيها بسرعة قطع الشيء المستدقّ كالحبل وغيره. ومنه قولهم: صرم الأمر. أي فرغ من فعله بسرعة. والصّريمة من ذلك. وفصل الأمر أيضا قريب منه..[سورة النمل: آية 40]: {قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)}.وقوله سبحانه: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} (40) وهذه استعارة.لأن المراد بارتداد الطّرف هاهنا التقاء الجفنين بعد افتراقهما. وذلك أبلغ ما يوصف به في السرعة. وليس هناك على الحقيقة شيء ذهب عنه ثم رجع إليه. ولكن جفن العين لمّا كان ينفتح وينطبق، أقام الانفتاح مقام الخروج، والانطباق مقام الرجوع.وقيل في ذلك وجه آخر. وهو أن في مجرى عادة الناس أن يقول القائل لغيره إذا كان على انتظار أمر يرد عليه من جهته: أنا ممدود الطرف إليك، وشاخص البصر نحوك.فإذا كان امتداد الطرف بمعنى الانتظار مستعملا، جاز أن يجعل ارتداده عبارة عن زوال الانتظار. فكأنه قال: أنا آتيك به قبل أن تتكلف أمر انتظار، وتعدّ الأوقات.والقول الأول أولى بالاعتماد، وأخلق بالصواب..[سورة النمل: آية 66]: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)}.وقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها، بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)} وهذه استعارة. لأن العمى هنا ليس يراد به فقد الجارحة المخصوصة، وإنما يراد به التعامي عن الحق، والذهاب صفحا عن النظر والفكر، إمّا قصدا وتعمدا، أو جهلا وعمى.وإنما أجرى الجهل مجرى العمى في هذا المعنى، لأن كل واحد منهما يمنع بوجوده من إدراك الشيء على ما هو به. إذ الجهل مضادّ للعلم والمعرفة، والعمى مناف للنظر والرؤية. وإنما قال سبحانه: {بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ} ولم يقل: عنها، لأن المراد أنهم يشكّون فيها، ويمترون في صحّتها، فهم في عمى منها ولا يصلح أن يكون في هذا الموضع: عنها. لأنه ليس المراد ذكر عماهم عن النظر إليها، وإنما القصد ذكر عماهم بالشك فيها. وهذا من لطائف المعاني..[سورة النمل: آية 72]: {قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)}.وقوله سبحانه: {قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)} وهذه استعارة. لأن حقيقة الرّدف هي حمل الإنسان غيره مما يلى ظهره على مركوب...فالمراد بقوله سبحانه: {رَدِفَ لَكُمْ} هاهنا- واللّه أعلم- أي عسى أن يكون العذاب الذي تتوقعونه قد قرب منكم. وهو في آثاركم، ولا حق بكم.وقد قيل أيضا إن المراد بردف لكم. أي ردفكم. فصار العذاب في الالتصاق بكم كالمرادف لكم. والمعنى واحد..[سورة النمل: آية 76]: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)}.وقوله تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)} وهذه استعارة. لأن القصص كلام مخصوص، ولا يوصف به إلا الحىّ الناطق المميّز. ولكن القرآن لما تضمن نبأ الأوّلين، ومصادر أمور الآخرين، كان كأنّه يقصّ على من آمن به عند تلاوته له قصص من تقدمه. اهـ..فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة: قال محمد الغزالي:سورة النمل:سورة النمل من القرآن النازل بمكة. وقد حوت عجائب عن عالم الحيوان ربما كشف عنها المستقبل القريب، وإلى ذلك تشير الآية الآخيرة في السورة: {وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون}. أما صدر السورة ففيه خلاصات سريعة عن مصائر المؤمنين والكافرين، فالهدى والبشرى للأولين، والضياع والخسار للآخرين. والواقع أن هذا التمهيد السريع جاءت السورة في الجزء الأخير منها بتفصيله، ولكن بعد إيراد أربع قصص: عن موسى وفرعون، وعن سليمان وسبأ، وعن ثمود، وعن قوم لوط كما جاء في السورة إيماء وجيز عن الدابة التي تخرج قبيل الساعة. فلننظر أولا إلى هذه القصص نظرة عجلى: في قصة موسى يقول الله له عندما فر بعد مارأى عصاه تتحول إلى ثعبان: {يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم}. في هذا الكلمة طمأنة لموسى أن الله غفر له قتل خصمه في مصر، فقد قال بعدما صرعه: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم}. وهو هنا يؤكد هذه المغفرة، ويبشره بالرسالة!!. ثم يذكر الفراعنة بأنهم كفروا بالله عن عمد وإصرار وهم عارفون بأن موسى على حق، فليس لهم أى عذر في حربه! {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}. وقبل أن نشير إلى قصة سليمان نذكر بقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم}.هذه الأمم تعيش وتتفاهم بلغات خاصة بها، ومادام هذا التفاهم مستيقنا، فإن في مكنة الناس أن يعرفوا أسراره. وقد كان سليمان من المحيطين بلغات الطيور والحشرات.، وعلمه الله منها ما يعجز عنه الآخرون: {علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين}. وقد أسمعه الله قول النملة لجماعتها: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين}. وذكرت السورة أن الهدهد أتى سليمان بخبر بلقيس ملكة سبأ التي كانت تعبد الشمس، وقد عجب الهدهد لما رأى أنهم وثنيون يعبدون من دون الله بعض مخلوقاته {فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون}. وقد خط سليمان كتابا إلى هذه الملكة جاء فيه: {بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين}. والإسلام هو دين الأنبياء كلهم، ما شذ منهم أحد، لأن أساسه الإيمان بالله، والخضوع له، والاستعداد للقائه، وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد سواء في ذلك. وقد تريثت بلقيس في الرد، وأحبت أن تعرف هل سليمان واحد من الملوك الذين يطلبون المال والسيادة؟ أم هو من الهداة إلى الله المترفعين عن الدنيا؟ فلما جاء سليمان وفد يحمل إليه التحف والهدايا أدرك ما هنالك. وقال للوفد: {أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون}. وأحب أن يرى الملكة معجزة تشهد له بالصدق! فقال لجلسائه: {أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين}؟. وجاء العرش بقدرة الله إلى بيت المقدس من اليمن في لمح البصر!. ورأى سليمان عظمة ما وقع فقال: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم}. وأظن- تفسيرا لما وقع- أن المادة تحولت إلى طاقة تجرى بسرعة الضوء، ثم عادت سيرتها الأولى عرشا تجلس عليه الملكة.وقد نظرت بلقيس إليه في دهشة، وقيل لها: {أهكذا عرشك قالت كأنه هو} وهى إجابة تدل على تمام عقلها، ثم رأت من حال سليمان ما عرفها أنه رسول من الله، فآمنت به وقالت: {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}. وتلت قصة ثمود قصة سبأ، وثمود نموذج آخر لعاد في الكبر والغطرسة. فلما جاءهم صالح يدعوهم إلى الله تشاءموا منه، وتآمروا على قتله {قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله}. ويبدو أنهم بدل أن يقتلوه قتلوا الناقة التي خلقها الله معجزة له، فذاقوا العقاب الأليم {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا}. ثم جاءت قصة لوط مع المدينة الفاسقة، كان أهلها قد مسخت فطرتهم، واستمرأوا الدنس، وجعلوه علنا في مجالسهم ونواديهم. ولوط إسرائيلى مهاجر إلى هذه المدينة، فلما فوجئ بخبثها نهاهم عنه، فرأوا طرده من مدينتهم، ويظهر أن فجورهم قد استقر في أنفسهم ومجتمعهم. {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}. وقد دمر الله القرية وجعل عاليها سافلها، ما فعله قوم لوط معروف عند أهل الكتاب ومصيرهم الكالح مذكور عندهم، ومع ذلك فقد استباحوه، ومنعوا معاقبة فاعليه، فهل هذا إلا الكفر؟. وعندما ننظر إلى أول السورة نجده مهادا لهذه الآحداث، ونذيرا بعقباها: {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون}. بعد أن قص الله على نبيه مصائر بعض الأمم التي كذبت رسلها أقبل عليه بهذا الخطاب: {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى}.
|